Monday, April 20, 2015

جهالة الله وضعفه: الجزء الثاني

هذا التعبير الجريء الوارد في الإنجيل (1 كورنثوس 1: 25) يبين أن الله يعمل في التاريخ بطرق غير متوقعة.  أساليبه تثير الدهشة عند ­البعض والاحتقار لدى الأغلبية.  يبدو وكأن الله يتلذذ في استخدام الضعيف ليهزم القوي والجاهل ليفضح الحكيم!

رأينا في الجزء الأول أن حياة السيد المسيح من لحظة ولادته لموته خير دليل على ذلك.  يبدو أن الله في المسيح كان يحارب حكام العالم السياسيين والدينيين والاقتصاديين (ومازال).  أول برهان كما رأينا كان تهميشهم الغريب في الإعلان عن الميلاد إذ فضل الله أن يرسل الخبر للبسطاء ولا للطبقات العلية في المجتمع اليهودي أو العالمي رغم أن الحدث نفسه ضخم.   فكان رد فعل الحكام عنيف وسريع وخبيث في نفس الوقت.  تظاهر الملك هيرودس كأنه يريد أن يسجد للمولود الجديد (متى 2: 8) تماماً كما يتظاهر حكام اليوم على أنهم يكرمونه! ولكن عندما تجاهله الماجوس بأمر إلهي ظهر وجهه القبيح في مذبحة أبرياء بيت لحم.  ترتكب الطبقات الحاكمة مجازر عندما تشعر بأدنى تهديد.

ما ظهر وقت الميلاد انعكس على الأحداث بعد ذلك.   لم يطلب المسيح مقابلات شخصية مع الحكام بل ذهب للبسطاء والمظلومين.
 "روح الرب علي، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية" (لوقا 4: 18).

مرة أخرى كان رد الحكام عنيف.  من ناحية بدأوا التآمر السري عليه ومن ناحية أخرى شنوا حرباً إعلامية ضده وضد من تعاطف معه. علينا أن نلاحظ نبرة الاحتقار الشديد في كلام الحكام عليه وعلى من قبلوه أو حتى أعجبوا به: 
 أجاب الخدام: لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان.  فأجابهم الفريسيون: ألعلكم أنتم أيضا قد ضللتم؟  ألعل أحدا من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به؟ ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون (يوحنا 7: 46-49)

استخدموا نفس أسلوب الإرهاب المعنوي مع المولود أعمى ومع أبويه إذ هددوا بطرد كل من اعترف بالمسيح من المجمع.  والعجيب أن المولود أعمى لم يشُفي فقط بل أيضاً تحرر من خوف الحكام!  كثيرا ما نتكلم عن معجزة الشفاء الجسدي وهي فعلاً عظيمة لكننا قليلاً ما نلاحظ معجزة التحرير الفكري والروحي وهي أيضاً عظيمة فما فائدة أن الإنسان يبصر وهو يعيش في حالة رعب من الأقوياء وجهل عن الله؟  اقترح عليك إعادة قراءة النص في يوحنا 9 خاصة من عدد 13 عندما تتحول المعجزة لمشكلة دينية وسياسية.

تزايدت شعبية المسيح ومعها حقد الحكام السياسيين والاقتصاديين والدينيين.  كانت هناك خصومة قديمة بين الفريسيين والصدوقيين لأسباب سياسية وفكرية قديمة.  فالفريسيون اعتبروا أنفسهم المدفاعين عن ناموس موسى وتحالفوا مع الكتبة بينما كان الصدوقيون فئة الكهنة المتحكمة في أموال الهيكل ومتحالفة مع المحتل الروماني لضمان منصبهم.  إلا أن كل هؤلاء تعاونوا للتصدي للمعلم من الجليل!  لماذا فعلوا هذا مع شخص لم يدعو قط لأي ثورة أو تمرد اقتصادي أو عسكري؟  السبب هو غضبهم وخوفهم من المسيح الذي كشف حقيقتهم قدام الرأي العام بنقاء شخصه ومحتوى تعاليمه وأسلوب معجزاته.   فرأى الناس بوضوح أن وراء الألقاب المحترمة والكراسي المبهرة غطرسة وكبرياء ونفاق مما جعل المواجهة ضرورية. 

فضح الله عظمة العظماء عن طريق نجار من منطقة محتقرة اسمها الجليل.

مرة أخرى كان رد فعلهم قوي وعنيف إذ تمكنوا من تضليل البسطاء الذين كانوا قد رحبوا بالمسيح في دخوله إلى أورشليم أيام قبل موته.  نتعجب كيف كانت الجموع سعيدة به يوم الأحد لكنها طالبت بصلبه يوم الجمعة.  السر كان في الحرب الإعلامية الكاذبة التي شنتها الطبقات الحاكمة.

" ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع" (متى 27: 20).

من أهم أسلحة عظماء المجتمع سلاح الإعلام لأن السيطرة الفكرية أقوى من أي سلاح آخر.  الإنسان يستعبد عندما يضل فكره.
وعند الصليب ظهرت جهالة الله وضعفه إذ بدى أن الطمع والرياء والكذب استطاع أن يطفئ أعظم نور إلهي في تاريخ البشرية. 
إلا أن هذا الإله "الجاهل والضعيف" قلب الموائد بطريقة عجيبة وغير متوقعة في أقل من 72 ساعة بعد "هزيمته"!

"فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله" (1 كورنثوس 1: 18).

علينا أن ندرك أن قوة الله الخلاصية ليست لمغفرة الخطايا فقط إنما هي لتحريرنا أيضاً من الضلال الفكري الذي يسود المجتمعات.   لاحظ كلام بطرس في أعمال 2: 20 وهو يبشر بإنجيل المسيح: "وبأقوال أخر كثيرة كان يشهد لهم ويعظهم قائلا: اخلصوا من هذا الجيل الملتوي."

كان الجيل ملتوي لأسباب كثيرة من أقواها هيمنة الأفكار الملتوية التي تنبثق من القصر والمعسكر وأصحاب رأس المال والمجمع.
هل أعطانا الإنجيل كل هذه التفاصيل عن مواجهة المسيح مع الطبقات الحاكمة لنتجاهلها؟ أم ليشبع فضولنا التاريخي فقط؟  أما هي ضرورية لنعرف كيف تسير الحياة في كل زمان ومكان حتى لا نجد أنفسنا تحت سيطرة المجتمع الملتوي؟

وللحديث بقية.

No comments:

Post a Comment