Monday, April 20, 2015

أزمة الحكم والحكام

لقد عانى الجنس البشري تحت الحكام المستبدين منذ فجر التاريخ.   والغريب أن المظلوم لو سمحت له الظروف يصير ظالم والذي كان مقهوراً بالأمس يقهر غيره إذا استطاع. 

هذا لأن المشكلة هي في طبيعة الإنسان بعد ما أغواه الشيطان يوماً أن يكون مثل الله فسعى وراء هذا السراب.   فالدراما التي حدثت في عدن لم تدور حول شجرة في حد ذاتها بل حول شهوة التعظم (تكوين 3: 5-6).   فالكبرياء هو جوهر الشر والسقوط فيه كان كارثي بالنسبة للجنس البشري من الناحية النفسية والاجتماعية والسياسية ولا الروحية فقط.  فالإنسان الساقط متمرد على الله وعلى أخيه أيضاً إذ أن رغبته الحقيقية أن يكون "مثل الله".  من هنا بدأت أزمة الحكم والحكام.

السعي للزعامة شهوة كل إنسان لو تُرك لذاته دون التعقل الناتج عن الإيمان.  ففي البيت الواحد نجد صراع أفراد الأسرة الذين يريدون التحكم في مصير باقي الأعضاء.  وفي القرية نجد من يريد السيطرة على جيرانه وهكذا في المدينة والأمة.   بالطبع أقلية تصل للهدف المنشود وتنجح في حكم الآخرين بسبب تميزها في المعرفة أو القوة أو المال.  عندما تصل هذه الأقلية للقمة تريد البقاء هناك عن طريق تعطيل أو قهر المعارضين لكي يجنوا المزيد من المكاسب المعنوية أو المادية. إلا أنه في أغلب الأحيان تواصل باقي أفراد الأسرة أو القرية أو الأمة مساعيها للاستيلاء على الحكم لينتقموا من الطغاة ويجنوا مكاسب السلطة لأنفسهم!  لذلك نرى في كل مجتمع صراعات وحروب بين الأفراد والفئات المختلفة لتحقيق شهوات قلوبهم وحماية أنفسهم من أهواء الآخرين (يعقوب 4: 1)!

قال ملك صور "أنا إله" وهكذا قال ملك بابل وفرعون مصر (إشعياء 14: 13-14، حزقيال 28: 1-2، 29: 3) وغيرهم من الحكام.  لو نظرنا في أعماقنا دون تجميل وبصدق شديد سنجد الرغبة المجنونة أن نكون آلهة لا بالمعني الديني بل كحب زعامة وسيطرة.  هذا مجرد امتداد لفكر الشيطان الذي بثه فينا عندما أستسلم له أبوينا.  فالنزاعات الدموية البشعة التي نشهدها اليوم والتي شهدها أجدادنا في أغلب العصور نابعة من كبرياء قلب الإنسان الذي صار مثل الشيطان ولا مثل الله.  يعلمنا الكتاب المقدس أن الشيطان يعطي قوة ومعرفة ومجد للحكام الذين يتبعونه وهذا ينعكس في الغطرسة والعنف والاستبداد الذي يمارسونه على باقي أخوتهم.  يوجد تلميح لهذه الفكرة في الأجزاء من إشعياء وحزقيال المشار إليها سابقاً والتعليم واضح في أجزاء أخرى من الإنجيل مثل سفر الرؤية 13: 1-2، 16: 13-14 وغيرها.  نجد أن الكتاب المقدس يشبه الملوك بوحوش مفترسة واصفاً بذلك وحشية معاملاتهم مع شعوبهم والشعوب الأخرى (دانيال والرؤيا).

من روائع الكتاب المقدس أنه كشف لنا طبيعة المأساة الإنسانية المتمثلة في حب السلطة والصراع عليها.  وقد تكلمنا في مقالات سابقة أن الله نفسه يقاوم المتكبرين في كل عصر ويحد من سلطتهم حتى تستمر الحياة وتتجه نحو مقاصده.  نجد مثلاً بعد الطوفان أن الله بلبل لغات البشر لكي يمنع تمركزهم تحت حكم وثني مستبد.  ففي تكوين 11: 4 قال زعماء المشروع   "لنصنع لأنفسنا اسماً لئلا نتبدد على وجه كل الأرض" بالرغم من أن الله كان قد أمر نوح وأولاده أن ينتشروا ولا يتمركزوا.  أقول "زعماء المشروع" لأنه من المستحيل أن هذه المملكة كانت لصالح جميع المواطنين بل لقلة ستواصل صعودها على اكتاف الآخرين.  من المحتمل أن زعيم الزعماء في بابل كان نمرود المذكور في تكوين 10: 8-10 (لاحظ ما قيل عنه هناك).   أوقف الله مشروع برج بابل لأنه كان بداية استبداد خطير يهدد مستقبل البشرية وإمكانية خلاصها فالانقسام العرقي على الأقل يضمن توازن القوى ويمنع الهيمنة الشريرة.

هذا الضوء الإلهي يوضح لنا أهمية الموقف الذي واجهه يسوع المسيح في البرية عندما أراه الشيطان "جميع ممالك العالم ومجدها" ووعد أن يعطيها إليه لو سجد له المسيح (متى 4: 8-9) !!  هنا يصل جنون العظمة إلى قمته إذ يطلب ملاك متمرد ولاء وعبادة يسوع المسيح ليحقق حلمه القديم أن يكون "الإله".  إلا أن السيد المسيح لم يكرر خطأ أبونا آدم بل فضح الشيطان ومن هنا شدد الشيطان حربه على المسيح من خلال المتجاوبون معه من قادة الشعب اليهودي كما رأينا في المقالات السابقة.

إذاً نجد أن أزمة الحكم والحكام موجودة منذ أيام آدم.  وبالرغم من ادعاء القادة نجد أن قاعدة حكمهم ليست العدل أو الشرائع الإلهية ولا حب الشعب بل الكبرياء والطمع وانتهاك حقوق الآخرين.  أعلم أن العالم تمتع ببعض القادة الصالحين لكنهم قليلون جداً ولم ينجو تماماً من الفساد.  من كان صالحاً في بداية حكمه فسد بسبب السلطة والنجاح مثل عزيا ملك يهوذا (أخبار الأيام الثاني 26: 16) وغيره.

هذه النظرة السلبية للحكام في الكتاب المقدس تتماشى تماماً مع ما نراه من حولنا.  لذلك يحذرنا الكتاب المقدس من الاتكال على الرؤساء لأنهم لا يمتلكون حل حقيقي لأعمق مشاكل البشرية بل هم جزء كبير منها (مزمور 146: 3).  يعلمنا إيماننا أن نصلي من أجلهم ونحاول التأثير عليهم في كل ما هو خير (1 تيموثاوس 2: 2-4).  إلا أن ثقتنا ليست فيهم ولا في المجتمع الحالي الذي وصفه الإنجيل على أنه "ملتوي" (أعمال 2: 40) و"معوج" (فيلبي 2: 15).

رجاؤنا الوحيد هو يسوع المسيح الذي جاء ليؤسس إنسانية جديدة بدأت بالفعل بموته وقيامته وتنمو تدريجياً إلى أن تنهي ظلام المجتمعات البشرية الفاسدة (أفسس 2: 15 في سياق الأعداد من 11-22).  هذه الإنسانية الجديدة تتطهر في شخصه وهي معروفة باسم "ملكوت الله" و "مدينة الله".   لقد بدأت بالفعل كمجتمع بديل يعيش بمبادئ المسيح ويضم كل من يريد الهروب من سجن المجتمعات القديمة التي هي اشبه بغابة البقاء للأقوى وافتراس الضعيف.  إن "ملكوت الله" ليس دولة مثل باقي الدول بل كيان موازي موجود في كل مكان يؤمن فيه الناس حقاً بالمسيح المخلص ويعيشون مع بعضهم البعض في سلام ومحبة تجاه الجميع.  لذلك نرى أن من أهم أهداف الله في إرسال يسوع المسيح إلى العالم كان تدمير قوة إبليس وأعوانه (يوحنا الأولى 3: 8) وتحرير البشرية منه ومن كبريائنا تدرجياً حتى تصير "ممالك العالم لربنا ومسيحه فسيملك إلى أبد الأبدين" (رؤية 11: 15). 
إن أبعاد هذه الأفكار ضخمة لو أردنا أن نتأمل فيها ونقبلها.  ستعلمنا أولاً لماذا قال المسيح "كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع" (لوقا 14: 11) وأيضاً "إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني.  فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها" (متى 16: 24-25).   أكبر سبب يجعل الناس يرفضون الخضوع للمسيح هو كبريائهم.

لو خضعنا له وتبعناه سيتبدل صراعنا مع الناس لسلام في أغلب الحالات.   أقول أغلب الحالات لأننا دائماً سنجد من يرفضون المحبة والتسامح والاخاء.

أخيراً لو صدقنا ما يقوله الكتاب المقدس لن نضع كل البيض في سلة الحكام الواحدة.  صحيح لن نكون سلبيين بل سنحاول دائماً التأثير على سياساتهم بالصلاة وبكل الطرق السلمية لكننا لن نتوقع أن المدينة الفاضلة ستأتي عن طريقهم.

وللحديث بقية.


No comments:

Post a Comment